الايجاز



اللغة العربية من أرقى الساميات لفظاً وسعة، وأرقى اللغات دلالة وفصاحة، وأشدّ ما يلفت فيها أنها لغة إيجاز، تعتمد على التركيز والاقتصاد على الجوهر، والتعبير بالكلمـة الجامعة والاكتفاء باللمحة الدّالة، فتوميء بإشارات معبّرة موحية إلى معاني خصبة وغزيـرة، وهي في ذلك تعني بإثراء الذوق ورقي الدلالة في البلاغة العربية، فيتناول البحث الإيجاز بصفة خاصة، وتوضـيح أثره في البلاغة العربيـة، من خلال النظر إلى كل ما يتعلق به من ذكر أقوال العلمـاء في تحديد الإيجاز بتعريف معين، وتوضيح الأسباب التي تؤدي إلى الإيجاز في القول، مع بيان أثر البيئة العربية في خلق دواعي الإيجاز، وتفضيل العرب والعربية له، ووقوف الإيجاز على حدود معينة يحرص بها على بلاغته وفصاحته، تجنباً من أن تلمسه شـواهد الإخلال، وأساليبه البلاغية التي ارتسمت في أقسام خطها العلماء له منذ القدم من غير أن يزيد عليها المتأخـرون.

ومن الأساليب البليغة التي تضمنتها اللغة نتبع أثر الإيجاز في العربية بصورة عامة، ابتداءً من الأسـاليب الإعجاز الإلهي في القرآن الكريم، والإعجاز النبوي الذي أوتي صاحبه صلى الله عليه وسـلم مجامع الكلم، ثم ألوان الكلام العربي التي اشتهر بها العرب من الحكم والأمثال والشعر والخطب، وبصورة خاصة الشواهد التي تدل على بلاغة الإيجاز، والتنبيه على أن الإيجاز في اللغة العربية ليس مجرد أسلوب من أساليب التعبير، وكونه نداً للإطناب أو نوعاً من بلاغة الأسلوب، بل يتعدى إلى أبعد من ذلك عندما نقتفي خطاه الواسعة، فندخل في جوانب لغوية أخرى، كالصوتي واللغوي والبلاغي، وهذا الجانب الأخير كان للإيجاز معه شأن كبير وحظ أوفر فيما تضمنته من أساليب وفنون بلاغية، وكيف تكون هذه الألوان لونا من الإيجاز.

ثم أن للإيجاز خصائصه التي تميز بها في الساحة اللغوية، وأكسبته دلالة بلاغية ومكانة عالية في اللغة العربي، نتبينها في ألفاظه ومعانيه، فهذا البحث يرمي إلى شمولية موضوع الإيجاز الذي تعرض له العلماء كجزء من علم المعاني، وكان متناثراً بين فنون البلاغة في كتب التراث، فيقوم البحث بتجميع كل ما يتعلق بالإيجاز في بحث مستقل خاص يرتكز عليه من ناحية أثره البلاغي.


الباب الأول


العربية لغة الإيجاز

تقديم: الإيجاز في العربية

إن أبرز ما يلفت الانتباه في لغة العرب أنها لغة إيجاز، وكيف أن كلمة واحدة فيها أو جملة واحدة تحتوي على ألوان من المعاني المختلفة والمتشبعة التي يتلاعب خيالها في ذهن المرء بسماعه لهذه اللغة، فإذا اقتفينا آثار خطى هذه اللغة المجيدة منذ بدايات عهدها في العصر الجاهلي، نجد أن العرب حينذاك شـديدي الحرص على الإيجاز في لغتهم، وقد كانوا يعمدون إلى حذف الحـرف والكلمة والجملة والجمل إذا وجدوا أن المعنى تامة بدونها، ويقتصرون على الإشارة المعبرة الموحية إلى المعنى فضلا عن السرد الممل.

وهكذا كانت السجية العربية الأولى تميل إلى الإيجاز، واللقطات الإيحائية في تعبيرها حين يغني اللمح عن التفصيل، وهذا ما نلمسه في أمثلتهم السائرة وخطبهم المتقطعة إلى فواصل كثيرة، وفي جعلهم البيت وحدة قائمة بنفسها.