المباءة


             
 1- عتبة المؤلف:

يعتبر محمد عزالدين التازي من رواد رواية الطليعة في أدبنا المغربي المعاصر، وذلك بمجموعاته القصصية ورواياته التجريبية منذ فترة السبعينيات إلى يومنا هذا.

ولد الكاتب بمدينة فاس سنة 1948م، درس الابتدائي في المدرسة الأميرية ، إحدى مدارس الحركة الوطنية، والتحق بثانوية القرويين، فدرس الأدب القديم وعلوم اللغة،ودرس أيضا الثقافة الغربية وترجمات الأدب العالمي. نشر أول قصة قصيرة وبعض المقالات سنة1966م، وهو تلميذ بالثانوي. وتابع دراساته الجامعية بكلية الآداب بفاس، واستكمل فيها دراساته الأدبية الجامعية حتى حصل على درجة الدكتوراه في السرديات. وقد مارس التدريس بالتعليم الثانوي و كلف بتأطير الطلبة الأساتذة بالمدرسة العليا للأساتذة بتطوان. وكان عضوا فعالا في اتحاد كت اب المغرب واتحاد الكتاب العرب بدمشق والمكتب التنفيذي لرابطة أدباء المغرب، وهيئة تحرير مجلة دفاتر الشمال، وهيئة تحرير سلسلة إبداعات شراع.

وقد كتب الرواية والقصة القصيرة والنقد الأدبي والمسرحية، كما كتب للأطفال. وقد ترجمت بعض أعماله إلى الفرنسية والإسبانية والهولندية والفلامانية والإنجليزية، وحاز على جائزة المغرب للكتاب سنة 1997م ، بعد أن حاز على جائزة فاس للثقافة والإعلام سنة 1996م.

وتتمثل إصداراته في مايلي:

الإصـــــــدارات طبيعتـــــــــها حيثيـــــــات النشر
أوصال الشجر المقطوعة مجموعة قصصية دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1975
النداء بالأسماء مجموعة قصصية دار الآفاق الجديدة، بيروت، لبنان، 1981م
منزل اليمام مجموعة قصصية Print diffusionسلا 1995
يتعرى القلب مجموعة قصصية سلسلة شراع 1998
الشبابيك مجموعة قصصية دار البوكيلي للطباعة القنيطرة، 2001
أبراج المدينة رواية اتحاد كتاب المغرب بتعاون مع اتحاد الأدباء في العراق، دار آفاق عربية،1978
رحيل البحر رواية المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1983.
المباءة رواية أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 1988
فوق القبور- تحت القمر رواية عيون، البيضاء، 1989
أيها الرائي رواية دار الأمان، الرباط، 1990
أيام الرماد رواية اتحاد كتاب العرب، دمشق1994
مغارات رواية مطبعة الساحل، الرباط، 1994
مهاوي الحلم رواية مطبعة البوكيلي بالقنيطرة
ضحكة زرقاء رواية روايات الزمن، العدد2، منشورات الزمن، 2000
المحاء مسرحية فضاءات مغربية، عدد1 ،1995
الغريب في الميناء مسرحية مواسم، العدد 2-3، 1995
الكتابة الروائية في رفقة السلاح والقمر دراسة أدبية ونقدية دار النشر المغربية، البيضاء، 1984
السرد في روايات محمد زفزاف دراسة أدبية ونقدية دار النشر المغربية، البيضاء، 1985
الكاتب الخفي والكتابة المقنعة دراسة أدبية ونقدية سلسلة شراع 1998

ومن سمات أعمال محمد عزالدين التازي التجديد والانزياح وتكسير السرد التقليدي المألوف كما هو الشأن في مجموعاته القصصية: أوصال الشجر المقطوعة(1975)، والنداء بالأسماء(1987)، ويتعرى القلب(1988)، ورواياته مثل: أبراج المدينة(1978)، ورحيل البحر(1983)، والمباءة(1988)، وأيها الرائي(1990)، ومغارات(1994)، علاوة على كتابات مسرحية تجريبية أخرى مثل: مسرحيته( المحاء) التي خص بها العدد الأول من مجلة فضاءات مغربية .1

2-
عتبة العنوان:

إن رواية "المباءة"2 لرواية فضاء موبوء بامتياز تذكرنا برواية الطاعون LA PESTE لألبير كامو ALBERT CAMUS الكاتب الفرنسي المولود بالجزائر، أو برواية المسخ METAMORPHOSES لكافكا KAFKAعلى مستوى التفاعل النصي والاشتقاق التناصي والحوار الروائي.

إن المباءة في اللغة اسم مكان على صيغة مفعل أو مفعلة. وهي عبارة عن المنزل بصفة عامة؛ لأن الإنسان أو غيره يتبوأ فيه مكانا يلوذ به ويحميه، وقد أنذر الرسول( صلعم) من يروي الأحاديث المزيفة والمختلقة وينسبها إلى شخصيته الكريمة، فقال:" فليتبوأ مقعده النار". وهذا دليل على أن المباءة دالة على المكان أو المجلس أو المقعد. ومباءة الرواية هي فاس التي أصابها تحول غير وجوده ساكنتها من رجال ونساء وأطفال وصبايا. إنه طاعون المرض الذي شوه خلقة أهالي فاس وشوه جمالهم الذي كان يتغنى به أصحاب الملحون" الزين الفاسي":" المباءة.

فاس المباءة.

متى تغلق علينا هذه الأبواب وننتظر موتنا على طريقة مدن الجذام؟ المباءة لم تغلق أبوابها علينا بعد، وعلينا أن ننتظر"3.

وقد تطبعت مدينة فاس الموبوءة بالتحول الغريب والتغير الفانطاستيكي القائم على المسخ والتش ويه العجائبي، وقد عبر السارد على المسخ والتشويه بطريقة شعرية قائمة على التكرار والطباق والتقابل والتضاد والالتفات الزمني والتغير الإيقاعي في السرد: "والمدينة اليوم تتغير.

تغيرت وجوه سكانها.

الشيوخ والشبان والصغار، النساء والصبايا، كلهم صارت وجوههم ذات تجاعيد حلزونية، مع انتفاخ باد. بقع ليست كالبرص ولكنها تشبه قشور صدف المحار. حلزون أو محار.؟ تحلزت الوجوه وغطتها طبقة من قشور منطفئة كأنها نبت القواد في جناح عصفور. الوجوه وحدها، وربما الأجساد تستر تحولها الجلدي تحت الثياب ولا يريدون أن يقولوا الجلد كله تغير. بدأ الداء الغريب ينتشر، وسموه مرض فاس أو مرض الفاسيين، وكان أول مالاحظه الناس هو اختفاء الضحكة وممازحات الباعة في الأسواق، ودلال الصبايا، ولعب الكرة في الأزقة الضيقة، وازدحام الطرقات. لاشيء من هذا. لم يعد من أحد قادر على الابتسام. والثرثارات ولعب الضامة والكارطة لم يعد لها من وقت أو خاطر. ثم بدأت المدينة تظهر بوجهها الغريب"4.

وتدل عناوين الرواية الخارجية منها والداخلية على المكون الفضائي المغلق الذي يتسم بالموت والتقزز والعبثية والخوف والرعب والدرامية والتوتر والبعد الجنائزي والعذاب الإ نساني وخطورة الداء. إنه يشبه فضاء العتبة الذي تحدث عنه ميخائيل باختين في شعرية الكاتب الروائي الروسي دويستفسكي ولاسيما في روايته المشهورة" الجريمة والعقاب".

وينبني المكون الفضائي على ثلاثة مرتكزات أساسية وهي:

فضاء المباءة الذي يحيل على الداء؛
فضاء السجن الذي يمثل العذاب؛
فضاء الضريح الذي يشير إلى الموت.
ويتبين لنا من خلال كل هذا، أن الرواية تشتغل على الفضاء تأزيما وتحريكا للأحداث عبر مسار البرامج السردية على المستويين: السطحي والعميق.

3-
عتبة المعمار النصي:

تستند رواية المباءة لمحمد عزالدين التازي إلى معمارية ثلاثية قائمة على التوزيع التيماتيكي والفصلي على الشكل التالي:

الفصول الضريح السجن الضريح
الصفحات 9-64 65-134 135-198
الشخصيات المركزية السي الهاشمي باإبراهيم السي الهاشمي
قاسم الورداني قاسم الورداني قاسم الورداني

وهكذا نلاحظ أن الرواية ذات معمار ثلاثي دائري مغلق في بنائه الحلزوني، تبتدئ فضائيا بالضريح وتنتهي إليه عبر فضاء السجن، أي من فضاء الموت إلى نفس الفضاء عبر فضاء التعذيب والتطهير والتنكيل ومصادرة حقوق الإنسان وكرامته وحريته في إبداء الرأي والجهر يالحق أو الصدع به.

4-
عتبة المقتبسات:

يستهل الكاتب فصول الرواية أو أقسامها الثلاثة الكبرى بمقتبسات توضيحية. ففي بداية الفصل الأول نجد مقتبسا صوفيا لابن ضربان الشرياقي يتحدث فيه عن الإنسان العارف والفقيه المجذوب والرجل المتنور في عصرنا. فالعارف في زمن المباءة هو رجل الوجدان والحال وصاحب المقامات على الرغم من عماه أو سكوته. فالمعرفة اللدنية العرفانية لاتتم بالمحسوس المادي ولا بالعقل، بل بالقلب والمشاهدة الروحية. وبعد ذلك، يتحدث الكاتب عن الكأس الصوفية وانتقال قاسم من عالم الرؤية والحس إلى عالم الغياب والأحوال والمقامات الوجدانية. ويعقب هذا المقتبس الصوفي مقتبس فلسفي لنتشه فيلسوف القوة والوجود والرفض الذي أقر فيه بأن الإنسان المتفوق هو الذي ابتلاه الجنون والاشتعال الوجداني. وهذا ما أثبته باسكال عندما أكد عقلانية المجنون باعتباره أكثر الناس عقلا.

ويستهل الكاتب الفصل الثاني بمقتبس لنتشه، وهو مأخوذ من كتابه"هكذا تكلم زرادشت" طالبا فيه الرفاق أن يقتنعوا بمبادئهم ومواقفهم ويصلون إليها عن طريق ممارساتهم الإبداعية وتجاربهم الشخصية دون أن يكونوا نسخا مستنسخة أو عقولا مطبوعة بمواقف الآخرين.< BR>
وينهي الكاتب الرواية بمقتبس فلسفي لنتشه يضعه في مستهل الفصل الأخير " الضريح" ليتحدث بلسان الشعب التزاما وتعبيرا عن قضاياهم في مواجهة تأنق التبرجز ونفاق الأسياد وكذبهم وزيفهم.

وهكذا نجد الكاتب يمزج الخطاب الفلسفي بالخطاب الصوفي أو ماهو وجداني بماهو عقلاني على مستوى المقتبسات النصية استشهادا وتوضيحا وبيانا وتوكيدا وإحالة وترميزا علاوة على جمعه بين خطاب الروح اللدنية وخطاب القوة الوجودية. وأصبحت ظاهرة المقتبسات النصية من سمات الرواية الحديثة، وبدأت تظهر في كثير من النصوص الروائية الجديدة والمعاصرة ،ولاسيما روايات بنسالم حميش في رائعته" مجنون الحكم".

5-
المتن الحكائي أو القصصي:

تصور الرواية مباءة الفضاء والأشخاص، وتركز على قاسم الورداني الذي اشتغل مدة سبع عشرة سنة مديرا للسجن المدني بفاس، بعد أن خاض حروبا في الهند الصينية دفاعا عن الحقد الفرنسي وعلٓمه الإمبريالي. وقاسم معيل أسرة تتكون من زوجة اسمها رقية وابنة تسمى نعيمة وولد اسمه منير. يسكن داخل السجن بجوار"باابرهيم" والمقتصد الذي كان ينهش عظام المسجونين حيث يأخذ طعامهم ويدخله إلى منزله دون أن يتدخل المدير أو أن يقف في وجهه باعت باره رئيسه الأعلى.

هذا، ولقد كره منير وظيفة أبيه لأنه كان ينظر إليه على أنه سجان الآدميين يصادر حقوقهم ويقوم بتعذيبهم دون رحمة أو رأفة. كما كان منير ينفر من الفضاء الموبوء المميت الذي كان يوجد فيه منزلهم وسط السجن باعتباره فضاء عدائيا يثير اشمئزاز الآخرين وامتعاضهم منه.

وكانت علاقة منير بأبيه علاقة صراع وجدال وتناقض حول الكثير من القضايا أهمها: قضية النضال والسعي الجاد إلى تغيير الوطن الموبوء على جميع الأصعدة لتحقيق العدالة الاجتماعية، وتوفير الأمن والرخاء والسعادة المطلوبة والدفاع عن حريات الإنسان وحقوقه الطبيعية والثقافية المشروعة التي أقرها الإسلام ونصت عليها مواثيق حقوق الإنسان الدولية والعالمية. بيد أن أباه كان يعارضه في كثير من النقط ويغضب أشد الغضب عندما تثار المسائل السياسية ولاسيما مهنته التي كانت تزعج منير وتنغص عليه حياته. لذا كان منير يحاربه ويجادله ويهدده بترك المنزل والانضمام إلى الرفاق ومناضلي الكلية.

ولم تكن المفاجأة مأساة إلا عندما عاد منير بعد غيبة طويلة. رجع وجسمه منهوك، وجسده ملوث بتعذيب آلي لايتصور. لقد عاقبوه وصادروا حريته وشوهوا جثته حتى أصبحت فخذاه لاتقدران على ال حركة والمشي. في جسده حروق وتشوهات من شدة ألم الاستنطاق والتعذيب اللاإنساني.

ولم يرض الأب بهذه الدراما الوحشية الفظيعة. لذلك ذهب إلى الرباط للتنديد بمصادرة حقوق الإنسان وإعدام الأطفال وتعذيب الأطفال والتنكيل بالطلبة والوطنيين الغيورين على مستقبل بلادهم. وعاد من الرباط وقد أصابته لوثة جنونية وهذيان أفقد رشده وعقله. وأثرت هذه اللوثة على مصير الأسرة إذ أبعدت من مقرها داخل السجن، لتنتقل بعد ذلك إلى دار قديمة حيث خال رقية زوجة قاسم.

وقد كانت نهاية الأب فاجعة وكارثة جنونية حلت بهذه الأسرة الفقيرة المعوزة. وانسلخ قاسم من هذا العالم الموبوء، وارتحل إلى الضريح حيث الزاوية لينضم إلى عالم الموتى والمجانين المقيدين بالسلاسل لينقش شواهد الشرفاء والراحلين إلى عالم الفناء والفضاء الأخروي.

وأصبح لقاسم عالم آخر عالم الروح والتصوف والأحوال، يعيش مع الأرقام والقطط والموتى يناجي الذات المعشوقة وحروف الحي الأكبر، وفضاء الولاية المقدسة مترددا بين قيم الطهارة والدنس أو بين سمات العالم الموبوء وعالم الجذبة والأوراد وتراتيل الصوفية العارفين بالله.

وهكذا يرحل قاسم في الأخير من عالم المادة إلى عالم الخلوة وا لحضرة الجنونية والمغيب الرباني. ومن ثم، يسترجع قاسم حريته وإنسانيته بعد تخلصه من مباءة الأوحال والأدران والأمراض المادية، لينتقل إلى عالم البركة والأولياء الصالحين وفضاء الأرواح وعشق الحروف وبياض الرخام وصفاء الوجدان وطهارة الأعماق.