الجهوية
العمق التاريخي للجهوية في المغرب
يثير التأريخ للجهوية بالمغرب صعوبة خاصة، ذلك أن الكتابات في هذا الموضوع
تكاد تتفق حول تصنيف (Typologie) تاريخي موحد يميز أساسا بين ثلاث
مراحل كبرى: مرحلة ما قبل الحماية، ثم مرحلة الحماية، وأخيرا مرحلة
الاستقلال، وليس تاريخا للجهوية، مما يؤدي إلى كثير من الخلط بين المراحل
من جهة، و يهمل بالتالي الرهانات السوسيو-سياسية والتاريخية التي تحكمت في
كل مرحلة على حدة من جهة ثانية، لذلك نقترح تحقيبا يقوم على أساس التمييز
بين مرحلتين أساسيتين: من الجهاتية إلى الجهوية الأمنية ( ثم من مرحلة
الفراغ الجهوي إلى الجهوية الأحادية
من الجهاتية إلى الجهوية الأمنية
تشمل هذه المرحلة الفترة الاستعمارية وكذا المرحلة السابقة عليها .
مرحلة الجهاتية
ونقصد بها المرحلة السابقة على سنة (1913) تاريخ صدور أول مرسوم يتعلق بالتقسيم الجهوي [1]، ففي هذه المرحلة افتقد المغرب إلى أي تنظيم جهوي بمعناه الحديث، وبالتالي فقد خضعت الخريطة الترابية للبلاد لمحددين أساسيين:
أولا: تطابق الجهة مع القبيلة أو التجمع القبلي
ثانيا: خضوع بروز النزعة الجهوية أو قوتها، لقوة أو ضعف المخزن.
ففيما
يخص المعطى الأول فقد برزت للوجود "تنظيمات جهوية تعتمد على الأسس القبلية
والجغرافية أهمها: الريف، الغرب، تادلة، الشاوية، تافيلالت، الحوز، سوس
والصحراء، وضمنها تتركز قبائل كبرى، كصنهاجة، زمور، زيان، أيت باعمران،
الشياضمة، حاحة، عبدة دكالة والرحامنة..." [2]
وبالتالي فإن حدود "الجهات" كانت تخضع بالأساس للصراعات بين القبائل
الرئيسية حول النفوذ الترابي والطبيعي ومراقبة الطرق التجارية. كما لعبت
الزوايا أدوارا محورية في ميدان مراقبة المجال وإدارته، سواء لصالح المخزن،
أو في تحالف مع القبائل المعارضة.
أما
بخصوص المعطى الثاني، فإن ثنائية "بلاد المخزن" و"بلاد السيبة"، كانت
المحك الحقيقي لاختبار قوة المخزن أو ضعفه، فأمام غياب الجهة كإطار للنشاط
التنموي يقوم على تقطيع فعلي، فإن "تقنيات المراقبة المجال –سياسية المتبعة
في هذه المرحلة (أي خلال القرن التاسع عشر)، لم تكن تسمح للمخزن بإخضاع كل
أرجاء ترابه فحضوره المتقطع حتم عليه الاكتفاء بتواجد رمزي، وعليه فإن
جهات بأكملها عارضت سلطته (بلاد السيبة) مقابل بلاد المخزن [3].
وقد
خضع الخط الفاصل بين البلادين لعلاقات القوة بين القبائل والسلطة
المركزية، أمام هذا النزوع الجهاتي/القبلي اعتمد المخزن على مركزة السلطة
من خلال شبكة إدارية، قامت أساسا على نظام الخليفة الإقليمي "والذي غالبا
ما يكون من نصيب عضو من العائلة السلطانية، والذي يتمتع بسلطة التدخل في
كافة شؤون الجهة"، ويستمد مشروعية سلطته القوية من التفويض الذي يقوم به
السلطان نفسه لفائدته، كما لم تعرف هذه المرحلة أي هيئة أو مجلس منتخب يمثل
السلطان، اللهم ما انبثق من داخل القبائل حسب أعرافها المحلية [4].
هذه الوضعية استمرت إلى حدود مجيء المستعمر والذي سيخضعها لمنطقه الخاص.
: مرحلة الجهوية الأمنية
كان
نظام الحماية وراء التغييرات الجذرية التي عرفها التنظيم الترابي بالمغرب،
فالسياسة الترابية للحماية "شكلت منعطفا في تاريخ المغرب، فقد حاولت في
البداية إظهار الفوضى المميزة للتدبير المخزني للمجال الترابي، لتقارنها
بعد ذلك مع قدرة الاستعمار على تأطير المجال وضمان الأمن" [5]،
حيث نجحت بفضل آلتها التأطيرية سياسيا وإداريا واجتماعيا، لقد نجحت
الحماية في تأطير التراب الوطني بمجموعة من النصوص القانونية، والتي أدت
إلى تقسيمات جهوية تستهدف تحقيق التهدئة أكثر من السعي نحو مطلب التنمية
والمشاركة السياسية، مما نتج عنه ازدواجية مجالية خطيرة، تمثلت في "المغرب
النافع" و"المغرب غير النافع"، فمباشرة بعد إعلان الحماية تم تقسيم البلاد
إلى جهات مدنية [6] وأخرى عسكرية [7] بحيث خضعت الأولى للمراقب المدني، والثانية للحاكم العسكري الذي يتمتع بسلطات كلية [8].
وقد
نتج عن هذا التقسيم ظهور أربع جهات مدنية وهي: جهة الدار البيضاء –جهة
الرباط –جهة وجدة –جهة الغرب؛ وثلاث جهات عسكرية هي جهة فاس، آسفي، مراقبة
مازاكان (الجديدة) ومراقبة موكادور (الصويرة).
المناطق المدنية: وتضم ثلاث جهات وهي: وجدة، الدار البيضاء، الرباط، إضافة إلى ثلاثة أقاليم وهي آسفي، ميناء ليوطي ومازكان.
المناطق العسكرية: وتضم ثلاث جهات وهي: فاس، مكناس، مراكش، إضافة إلى أربعة أقاليم وهي: تازة، تافيلالت، تخوم درعة، ووسط الأطلس. [10]
أما على الصعيد الإداري وبموازاة مع هذا التقطيع، فقد تم إحداث مؤسسات جهوية، ويتعلق الأمر ب:
- المجالس الإدارية الجهوية.
- و اللجن الاقتصادية الجهوية.
يظهر
إذن أن التنظيم الجهوي الذي ساد خلال فترة الحماية قد أملته الاعتبارات
الأمنية والعسكرية والمتمثلة خصوصا في تحقيق سياسة التهدئة عبر إخضاع
المناطق التي عرفت مقاومات مسلحة، وتهييئ المناطق الغنية سواء من الناحية
الفلاحية أو المنجمية، فالجهات استهدفت عدم تركيز عملية اتخاذ القرار
العسكري والإداري، وليس تحقيق تنمية اقتصادية أو اجتماعية مما نتج عنه
ازدواجية مجالية بين "المغرب النافع" و"المغرب غير النافع"؛ كما أن الشبكة
الإدارية التي واكبت هذه التقسيمات الجهوية، جاءت للتعبير عن ضرورة التحكم
والمراقبة السياسية والإدارية، أكثر مما استهدفت تحقيق اللامركزية
والمشاركة السياسية والإدارية على المستوى الجهوي [11].
فالجهوية
إذن "لم تظهر في المغرب إلا مع الحماية الفرنسية، بصورة مشوهة ومنعدمة
الأسس القانونية والاجتماعية، فقد استهدفت الجهوية أساسا احتواء الأوضاع
الداخلية للمغرب عسكريا، لذلك لم تشكل هذه المرحلة أي إرث يذكر على مستوى
التنظيم الجهوي وهو ما يفسر، جزء مهم من الإهمال الذي حضي به المستوى
الجهوي لاحقا.
هذه
الوضعية، وإن كانت قد انتهت بنيل المغرب لاستقلاله، فإن آثارها السلبية
على مستوى الاختلالات المجالية قد استمرت لعدة عقود ذلك أن مفهوم الجهة قد
اختفى نهائيا من القاموس السياسي والإداري إلى حدود بداية عقد السبعينات [12]
من الفراغ الجهوي إلى الجهوية الأحادية
وتهم
هذه المرحلة العقد التالي للإستقلال إلى حدود تبني مفهوم الجهوية دستوريا
(1992-1996) وصدور قانون منظم لها (أبريل 1997)، ويمكن تقسيم هذه المرحلة
إلى مرحلة الفراغ الجهوي ثم مرحلة الجهوية الأحادية .
مرحلة الفراغ الجهوي
تمتد
هذه المرحلة من سنة 1956 إلى حدود 1971 تاريخ إقرار أول تقسيم جهوي لما
بعد الاستقلال ويرجع نعتنا لهذه المرحلة بفترة الفراغ الجهوي، بالأساس إلى
غياب هذا المفهوم في خطابات الفاعلين السياسيين (الخطابات الملكية، البرامج
الحزبية، التصريحات الحكومية) ويعود هذا الأفول الذي لحق البعد الجهوي، من
جهة إلى طبيعة العلاقة الصراعية بين القصر وأحزاب الحركة الوطنية خاصة حزب
الاستقلال حول شكل السلطة، وما تطلبه استكمال الوحدة الترابية من مجهودات
ومركزة للقرار السياسي، ومن جهة ثانية، عدم إلحاحية المشاكل والاختلالات
الجهوية نظرا لضعف حجم الساكنة مقارنة مع الإمكانات المجالية من جهة ثالثة [13].
لذلك
انحصر الإهتمام بالمجال كرهان سياسي إستراتيجي على مستوى المراقبة والضبط،
فقد أهمل التقسيم الجهوي مقابل الاهتمام المبكر بالتنظيم الجماعي
والإقليمي، بهدف "تكريس سلطة الدولة المستقلة، آنذاك إداريا وسياسيا" [14] بحيث اعتبرت العمالة والإقليم من أهم الوحدات الإدارية للدولة [15].
وعليه
فقد عرفت هذه المرحلة سيادة رهانين متعارضين: يهدف الأول إلى تعزيز مراقبة
المجال عبر إحداث شبكة إدارية وفعالة: "فالتقسيم الإداري الجديد الذي عقب
فترة ما بعد الاستقلال، والذي قسم البلاد إلى عمالات وأقاليم ودوائر
وجماعات حضرية وقروية جاء ليعبر عن أحد أوجه تدخل الدولة في تنظيم المجال
القروي واستكمال إرساء المقومات الإدارية لهيمنتها" [16]،
بغية تجاوز الإطار القبلي والقضاء عليه كفاعل منافس للدولة في مجال مراقبة
المجال، وتمثيل السكان، فقد اعتبر "محمد الخامس" في خطاب 8 ماي 1958 أن
تطور البلاد اقتضى انكسار البنيات القبلية، التي لا يمكن لها من الآن
فصاعدا أن تكون الأساس لإرساء أجهزة تمثيلية، لذلك ارتأينا أن تكون الجماعة
كخلية اجتماعية وسياسية جديدة، الأساس لتنظيم المغرب الحديث" [17].
إن
تقوية سلطات واختصاصات رجال السلطة المحلية (القائد والباشا ثم العامل)
وإعطائهم الوسائل الضرورية للعمل على تنفيذ قرارات المجالس المحلية، أدت
إلى تجريد هذه الأخيرة من كل سلطة تقريرية أو تنفيذية، ذلك أن تفوق السلطة
الحكومية التي تتوفر على اختصاصات إدارة التراب قد طورت منطقا يخضع المشاكل
المتعلقة بالتنمية لفائدة مراقبة المجال والسكان.
أما
الرهان الثاني، والذي يعتبر مكملا في عمقه للأول فيتعلق بالتنمية المجالية
التي تضمن للدولة تواجدها النخبوي في العالم القروي: فقد تبنى المغرب منذ
الاستقلال سياسة التخطيط وذلك من خلال:
التصميم الثاني 1958-1959 :
ركز على الاستثمارات العمومية المنتجة في الميدان الفلاحي، من خلال تنظيم
عمليات الحرث وتجهيز المناطق السقوية والاهتمام ببعض الصناعات المرتبطة
بهذا القطاع ودعم التكوين المهني والتقني [18].
التصميم الخماسي 1960-1964
، تأسس على مفهوم "تحديث الوسط القروي"، خاصة وأن المخطط جاء كرد فعل على
الأحداث الدامية التي عرفتها منطقة الريف، من خلال التركيز على ضرورة وضع
برمجة شاملة يتم من خلالها إعطاء الأولوية للإستثمار ووضع لبنات تشييد
الاقتصاد الوطني.
لكن
رغم الحماس الكبير الذي أبداه هذا المخطط، فقد حال الواقع العملي،
والاختلالات المجالية والتعقيدات الإدارية، دون تحقيق أبرز أهدافه [19].
المخطط الثلاثي: 1965-1967 ،
وقد أبدى هذا المخطط اهتماما جهويا لبعض القطاعات، تماشيا مع التوجهات
الملكية، خاصة في المجال الفلاحي والقروي، فقد جاء في الخطاب الملكي بهذه
المناسبة بتاريخ 3 مارس 1967: "قررنا توزيع هذه الأعمال توزيعا جهويا من
شأنه تفادي كل تأخير يمكن أن يطرأ على تنفيذ برامج التنمية الفلاحية، بدلا
من تركيزها على الصعيد الوطني، تحت مسؤولية مشرف واحد... وهكذا أنجزنا لحد
الآن سبعة مكاتب جهوية للاستثمار في المناطق التي تتوفر فيها إمكانيات شتى
بفضل السقي لتقوية الإنتاج الفلاحي" [20].
يتضح
إذن أن الاهتمام بالشأن المحلي، خلال العقدين التاليين للاستقلال لم يرق
إلى المستوى الجهوي، بل اقتصر على البحث عن تأسيس نوع من عدم التمركز، يضمن
للدولة أعلى مستويات المراقبة المستمرة والمباشرة، فالمجال ظل إذن "رهانا
سياسيا، قبل أن يكون حقيقة اجتماعية (تنموية)، وذلك بالبحث عن إدماج
المواطنين عن طريق الإنخراط الملموس في سير آلة الدولة وفق منظور بركماتي" [21]،
غير أن بداية السبعينات ستشهد منعطفا في الخطاب السياسي المغربي من خلال
عودة مفهوم الجهوية للتداول، لكن فقط في إطار اقتصادي تخطيطي.
مرحلة الجهوية الأحادية
شكل
عقد السبعينات لحظة تحول في النسق السياسي المغربي من خلال بروز البوادر
الأولى لخطاب تدبيري، من خلال الدفعة التي أعطاها ميثاق التنظيم الجماعي ل
30 شتنبر 1976 في مجال انخراط المواطنين في المشاركة في تدبير شؤونهم
المحلية عبر منتخبيهم الجماعيين (أولا) وتأسيس الجهة كإطار للفعل الاقتصادي
(ثانيا)، وتكريس سياسة التخطيط على المستوى الجهوي للقضاء على الاختلالات
الجهوية، التي ابتدأت مع المرحلة الاستعمارية وتفاقمت خلال العقود اللاحقة
(ثالثا) [22].
أولا:
شكل ميثاق التنظيم الجماعي لسنة 1976 تحولا مهما في مجال دعم اللامركزية،
خصوصا بعد أن تم حل الخلافات السياسية التقليدية بين القصر وأحزاب الحركة
الوطنية، بفضل الإجماع الوطني الذي تمخض عن حدث المسيرة الخضراء (1975).
فقد منح هذا الظهير اختصاصات مهمة للجماعات المحلية واعتبرها المسؤول الأول
عن التنمية الاقتصادية والاجتماعية للجماعات وبالفعل فقد 'أصبح رؤساء
المجالس الجماعية (القروية والحضرية) يتمتعون بشرعية مزدوجة: فهم من جهة
منتخبون بطريقة ديمقراطية، مما يعطيهم شرعية سياسية ومن جهة ثانية شرعية
إدارية من خلال اندماجهم في جهاز الدولة" عن طريق الوصاية الممارسة على
أعمالهم.
ثانيا:
عرف المغرب التقسيم الجهوي لأول مرة منذ الاستقلال، بهدف تقليص الاختلالات
الما بين جهوية وإقحام هذه الأخيرة في مجال التنمية الاقتصادية [23]، فلقد أتبثث التجربة أن القرار الاقتصادي الممركز أصبح يشكل أحد العراقيل لمجهودات التنمية [24]، وقد جاءت الخريطة الجهوية وفق ظهير 1971 على الشكل التالي:
جدول رقم 1 يبين الجهات، عدد الأقاليم و عدد العمالات وفق التقسيم الجهوي لسنة 1971
الجهات
|
عدد الأقاليم
|
عدد العمالات
|
1- الجهة الجنوبية
|
12
|
01
|
2- جهة تانسيفت
|
05
|
02
|
3- الجهة الوسطى
|
06
|
03
|
4- الجهة الشمالية الغربية
|
07
|
08
|
5- الجهة الوسطى الشمالية
|
05
|
03
|
6- الجهة الشرقية
|
04
|
03
|
8- الجهة الوسطى الجنوبية
|
04
|
02
|
المجموع
|
43
|
22
|
المصدر: الظهير الشريف 77-71-1 في 16 يونيو 1971
فالجهة
حسب ظهير 1971 تعني مجموعة من الأقاليم التي تربط بينها، أو من المتوقع أن
تربط بينها على الصعيد الجغرافي والاقتصادي والاجتماعي، علاقات كفيلة
بتقوية نموها، والتي تقتضي من جراء ذلك القيام بتهيئة عامة فيها، أي كإطار
عمل اقتصادي يباشر داخله إجراء دراسات وإنجاز برامج قصد تحقيق تنمية منسجمة
ومتوازنة لمختلف أجزاء المملكة [25].انطلاقا
من هذا التصور المحدود للجهوية، والدور الذي أنيط بالجهة، وكذا التقسيم
الجهوي الذي أفرزه ظهير (1971)، يظهر لنا مدى القصور الذي عانت منه هذه
التجربة، ويمكن رصد هذه الوضعية من خلال الملاحظات التالية:
*
المشرع المغربي لم يدمج الجهة ضمن الجماعات المحلية، لذلك بقي هذا المستوى
وإلى حدود التعديل الدستوري لسنة 1992 مجرد إطار للدراسة والعمل
الاقتصاديين يفتقد للشخصية القانونية والاستقلال المالي، الكفيلين بتفعيله.
*عجز الجهة، حتى في المجال الاقتصادي المحدد لها عن تحقيق أهدافها
المتمثلة في التنمية الجهوية والحد من الاختلالات المجالية: "إذ ظلت "الجهة
الوسطى" والجهة الشمالية الغربية" تمثلان قطبا اقتصاديا استأثر بأغلب
التجهيزات والبنيات التحتية المهمة" هذا التفاوت واكبه تفاوت مماثل على
المستوى الديمغرافي بحيث تركز 48 % من مجموع السكان –سنة 1990- داخل
هاتين الجهتين واللتان لا تشكلان سوى 11 % من مجموع التراب الوطني [26].
*
افتقار الجهة لأية صفة تقريبية فعدم التنصيص على إحداث هيئة تتولى تنفيذ
المقررات التي يمكن اتخاذها على صعيد كل جهة وغياب الاختصاصات الواضحة
للمجلس الجهوي الذي كان دوره لا يعدو أن يكون استشاريا إضافة إلى ضعف
مواردها المالية والبشرية،كلها عوامل حكمت على العمل الجهوي بالشلل منذ
البداية.
*
على مستوى التقطيع يظهر أن تقسيم البلاد إلى 7جهات اقتصادية لا يستجيب
لأية معايير وخصوصيات سوسيو- مجالية فعلى المستوى السوسيولوجي،هذه الجماعات
(الجهة) لا وجود لها، ليست لها حقيقة بشرية لا توجد عقلية جهوية ولا يوجد
إحساس بخصوصية المصالح الجهوية [27].
ويمكن
إرجاع التحفظات التي أحاطت بهذه التجربة بحالة البنيات السوسيو-اقتصادية
والسياسية للبلاد والمتمثلة في الرغبة القديمة- الجديدة للدولة في مركزة
السلطة من خلال "تأسيس نفوذها على مختلف تمظهرات الحياة الاجتماعية
وتسهيل ممارسة سلطتها".
ثالثا:موازاة
مع ظهير 1971 حول الجهوية استمر المغرب في إتباع سياسة التخطيط، بحيث
اعتبر البعد الجهوي أحد أهم المحددات للمخططات التنموية منذ بداية عقد
السبعينات، فهل استطاعت هذه السياسة تحقيق ما عجزت عنه التجربة الجهوية
الأولى؟ [28]
من كل ما سبق نستنتج ما يلي:
أولا:
يشكل إيجاد تعريف جامع لمفهوم السياسة الجهوية في المغرب صعوبة خاصة نظرا
لكون هذا البحث لم يشكل بعد موضوع تفكير وإنتاج أكاديمي معمق.
ثانيا:
يؤدي التأريخ الكرونولوجي الذي درج عليه البحث بالمغرب حول العمق التاريخي
للجهوية إلى مغالطات كبيرة تنعكس سلبا على نتائج البحث، فالمتتبع لتطور
الجهوية لا يلمس تفاوتا كبيرا منذ التقسيم الجهوي الذي أقامته الحماية
والتعديلات التي أدخلت عليه منذ الاستقلال إلى حدود 1992، فالجهوية شكلت
طيلة هذه المرحلة وسيلة للضبط والمراقبة أكثر مما هي أداة للتنمية
الاقتصادية والمشاركة السياسية للسكان.
ثالثا:
ارتبط تبني "الجهوية" الاقتصادية خلال عقد الثمانينيات بإكراهات مرحلية
(الاختلالات الجهوية وضرورة تجاوزها- الانتفاضات التي عرفتها بعض المدن
الكبرى خاصة (فاس، مراكش، البيضاء) - تراجع موارد الدولة نتيجة انخفاض
أسعار الفوسفاط وتزايد تكلفة استيراد الطاقة - تراجع المحاصيل الفلاحية
المرتبطة بحالة الجفاف منذ بداية الثمانينات - إكراهات صندوق النقد الدولي
ونتائج سياسة التقويم الهيكلي...) أكثر مما كانت خيار إستراتيجيا مجتمعيا [29].
رابعا:
ارتبط تطور الجهوية بالمغرب – على الأقل منذ الاستقلال إلى حدود -1992–
بتطور الجماعات المحلية (الجماعات، الأقاليم...) فالجهة جاءت لسد الفراغ
الناتج عن عجز هذه الوحدات المحلية المرتبطة بسياسة عدم التركيز
واللامركزية في مجال التنمية الاقتصادية و التمثيل السوسيو-سياسي، لذلك ظلت
الجهة تعاني هي الأخرى من نفس المشاكل التي طرحت من قبل سواء تعلق الأمر
بمشكل الوصاية أو بضعف الموارد وضيق الاختصاصات. فالمشروع الجهوي الذي
تبناه المغرب منذ 1971 لم يعبر عن فصل عمومي للسلطة بين المركز والمحيط كما
هو الحال في التقاليد السياسية الليبرالية [30]،
نظرا للتحفظات الكثيرة التي أبداها الفاعلون السياسيون خلال هذه المرحلة
حيال تأسيس سلطة محلية موازية ومنافسة لسلطة الدولة، فهل عبرت الإصلاحات
الدستورية التي عرفها عقد التسعينات في مجال الجهوية عن قطيعة مع سلبيات
المرحلة السابقة سواء فيما بتعلق بالتشريعات والمؤسسات المنبثقة عن الإصلاح
الجهوي الأخير(1997)، وما طبيعة الرهانات التي علقت على هذا الإصلاح في
علاقته بالتنمية القروية؟ وبالتالي ما الدلالات الإستراتيجية التي يكتسيها
العمل الجهوي في ميدان التنمية القروية في ظل التحولات العميقة التي يمر
بها العالم و ما انعكاس ذلك على واقع التنمية القروية [31]؟